الروائية العُمانية عزيزة الطائي تنتصر لهن: “أصابع مريم” صرخات أنثى بحثًا عن الحب والحرية، للدكتور سمير محمود

تتكئ الكاتبة الروائية العمانية الدكتورة عزيزة بنت عبد الله الطائي في أحدث أعمالها  الروائية “أصابع مريم”  الصادرة عن دار الفراشة للنشر والتوزيع بدولة الكويت، مستندة على بناء زمكاني يتخذ من سلطنة عمان مسرحًا لأحداث الرواية ومن السبعينيات وحتى الآن سياقًا زمنيًا، ومن الأنثى العربية بطلًا ومحركًا لكل الأحداث، عبر حشد لأصوات النساء المقهورات والمعذبات والحالمات والرافضات والمتحررات والعاشقات والمتمردات والصامتات اللاتي احتبسن بأصواتهن المتعددة في شخصية الأم “مريم ” وتجلياتها في بناتها الأربع، أصابعها التي لا تشبه إحداها الأخرى رغم أنهن ينتمين للكف نفسها!

الروائية عزيزة بنت عبد الله الطائي حاصلة على الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث ولها العديد من الإصدارات منها “شعر صقر بن سلطان القاسمي: دراسة نقدية” عن دار جرير للنشر الأردن 2009ØŒ Ùˆ”ثقافة الطفل بين الهوية والعولمة” عن مؤسسة الدوسري للثقافة والإبداع البحريني 2011ØŒ بدعم من النادي الثقافي، Ùˆ”أرض الغياب” وهي الرواية الأولى لها وصدرت عن دار فضاءات بالأردن 2013. إلى جانب “ظلال العزلة” وهي قصص قصيرة جدا، عن دار فضاءات بالأردن 2014. إضافة إلى “موج خارج البحر” وهي كذلك قصص قصيرة جدا، عن دار فضاءات بالأردن 2016ØŒ Ùˆ”مهارات التواصل الوظيفي في اللغة العربية”ØŒ عن بيت الغشّام 2016ØŒ Ùˆ”خذ بيدي فقد رحل الخريف” ديوان شعري عن “الآن ناشرون وموزعون” بالأردن 2019ØŒ نالت عنه جائزة الشارقة لإبداعات المرأة الخليجية في مجال الشعر، وصدر لها أيضًا “الذّات في مرآة الكتابة” عن مؤسسة عمان للصحافة والنشر 2019ØŒ وغيرها.

تدور الرواية حول الحياة الاجتماعية في المجتمع العماني بتعقيداتها وتشابكاتها وخطوطها الحمراء، من خلال الزوج حمد الرافض لعادات مجتمعه متأثرًا بحياته ومقامه في روسيا، والزوجة مريم المتمسكة بعادات وتقاليد مجتمعها، وبين تناقضات الشخصيتين، كشفت الرواية عن فجوات المجتمع فكريًّا ودينيًا وطائفيًّا وقبليًّا، كما كشفت عن التناقضات الحادة بين شعارات يرفعها الرجل في المجتمع، وممارسات على النقيض تمامًا من تلك الشعارات.

وهكذا بنت الكاتبة شخصيات روايتها خاصة البطلة الأم مريم، التي تعاني من أفكار زوجها المضطرب المزاج المتحرر في فكره، وتأثيراته على بناته الأربع اللاتي يتحلقن حوله مشدوهات بأحاديثه وحكاياته الآسرة عن الإنس والجن والموسيقى والخيال والحياة والحب والحرية، وتلك الأفكار التي تأثرت بها معظم البنات الأربع “وفاء” Ùˆ”إيمان” Ùˆ”نوال” Ùˆ”ابتسام”ØŒ والتي كانت دائمًا سببًا لخلافات عمقت وتجذرت عبر الزمن بين الزوجة وزوجها؛ إذ ظلت البنات معجبات متأثرات بأفكار الأب التحررية، حائرات مترددات راضخات ومتمردات في أحيان كثيرة على أفكار الأم مريم، التي باتت هي أيضا ظلًّا لصورتها الحقيقية، امرأة على مشارف الخمسين شائخة مستسلمة للأقدار بعد أن كانت شامخة متمردة ذات رأي وقرار في صباها، خبت وصارت ظلًا تطارده عذابات وويلات الحياة والقهر الذي تعرضت له كل النسوة اللاتي صادفنها بحياتها ابتداءً من عمتها عائشة وخالتها هند،  ومرورًا ببناتها الأربع ومعاركهن وخيباتهن جميًعا في رحلة الحياة.

وبرغم أن الحب بدا موضوعًا مسيطرًا ومحركًا لأحداث الرواية، عالجت الكاتبة بمشرط جراح ماهر قضايا شائكة في المجتمع الخليجي، تتعلق بالمذهبية العرقية الطائفية، والانتماء القبلي، وتعقيدات الزواج وعلاقة الرجل بالمرأة من خلال نماذج لقصص حب مشوهة ومبتورة، كما تطرقت لحقوق المرأة وشعارات المساواة بالرجل في مجتمعات ذكورية تماما، إذ يقول الزوج حمد الرافض لتقاليد مجتمعه في حديث نقدي معتاد لزوجته مريم:

 Ù€Ù€ لم نعد نتمنى العدل في أوطاننا، فقط نطلب توزيع الظلم بطريقة عادلة.

هكذا تشّكلت الأسرة بين روح الأب المنكسرة وروح الأم المهادنة، بين رؤية الأب المتمردة والمنفتحة وغير القادرة على التأقلم مع أفكار المحيطين بهم ومعتقداتهم، وإصرار الأم على تبني تقاليد المجتمع عند خوض معترك الحياة. وكان شغف كل من حمد ومريم أن تنال بناتهما كل ما يميز الفتيات ليعشن بطمأنينة وسلام.

تعتمد رواية “أصابع مريم” في نسيجها الداخلي على عدد من تجارب الحب الفاشلة أو المرفوضة مجتمعيًّا، مغلفة بثقافة موسوعية للكاتبة التي صدرت الفصول الخمسة لروايتها بمقولات واقتباسات وأشعار أضاءت الأنساق السردية، ومنحت القصص العديدة داخل القصة الأصلية نكهة خاصة عنوانها الأكبر “البحث عن الحب المفقود” الذي يشبه لؤلؤة المستحيل الفريدة، ذلك الحب الذي اكتوت بناره مريم نفسها مع زميل العمل هلال بعد وفاة زوجها حمد الذي حرمها لذة الحب والحياة والحرية، كما اكتوت بنيرانه بناتها الأربع كلٍ بطرق مختلفة، ” فأصابع يدك ليست مثل بعضها”!

ترفض الأم حب ابنتها ابتسام أو زواجها من حسين، وهنا تحدثها الابنة بلغة كاشفة، متأثرة بأفكار والدها المنفتح والمتفتح المتحرر غريب الأطوار: أنا الآن وحدي. أنا بحق سجينة كبقية السجناء دون حسين. يا أمي، يا امرأة مشدودة بالقشور، يا متعلقة بالظاهر، فلتعلمي أن الجوهر أصل الحياة، ولب استمرارها، افرشي لي حضنك الذي طالما حملني إلى وطني، دثريني بأنفاس أبي؛ حتى أرى وطني مسيجا بالإنصاف والسلام والحرية.

نموذج آخر لقصة حب مبتورة طوال غياب الحرية والحب والحرية صنوان، فها هي الابنة وفاء التي أحبت “جلال أمين البلوشي” ورفض هذا الحب الأهل والجيران، لتبدأ الكاتبة التنويع بين صوت الراوي والمونولوج الداخلي العميق على لسان وفاء التي تحاكم العالم، وترفض منطق الأم ونظرة الجيران وسطوة الخال والأهل عامة فتقول:

“Ø¥ نكم أهلي.. Ø¥ نكم ظالمون.. Ø¥ نكم سارقو حلمي، ها أنا ذي في ركن من أركان الكون منبوذة.. أصيح بضجر، أصرخ بوجع.. فعلى من أعلن الحرب!!! إنها اللحظات التي تسرق أعمارنا من بين أيدينا.  كم من علاقة تموت بيننا ونحن أحياء! وكم من أحياء يرحلون، وتبقى علاقاتهم على قيد الحياة؟”.

وتقترب الرواية بعدسة مكبرة كاشفة قد تداوي ولا تداري آفات المجتمع وعاداته التي أجبرت بنات مريم على العيش في “ظلال الحب” لا الحب نفسه، هو كشجرة محرمة ليس مسموحًا لهن بالاقتراب منها؛ إذ “أدركت وفاء بعد مدة قصيرة.. أن أحلام العشاق كالفقراء لا مكان لها في هذا الكون، وأن حبهما، ذاك الحب الذي لم يتقبله الأهل والجيران، ولم يستوعبه الأحباب والأصحاب”.

بين غُربة الشرق وثقافة الغرب، نسجت الروائية رحلة معاناة الابنة نوال  من أجل الحب والحرية، نوال التي تمردت على المجتمع وعلى والدتها فهاجرت إلى كندا لتتزوج بمعلمها وائل الذي أحبته، وبعد سنوات من الحب والزواج تفشل زيجة نوال من وائل وتحب غيره، سالمًا المتزوج وتقبل أن تصبح زوجة ثانية، ويثمر الحب والزواج الابنة “أمل” التي تموت في حادث سير عند سن الخامسة، وتحت وطأة عدم قدرة سالم ØŒ على تحقيق التوازن المطلوب بين بيته وزوجته الأولى وأولاده الثلاثة، وزوجته الثانية نوال، تضطر الأخيرة للانفصال وتفر عائدة لمسقط تجر خيباتها، وخروجها جريحة بعد تجربتي زواج تحدت فيهما المجتمع بأسره، وهنا تصب جام غضبها على مجتمعها قائلة: ” في الواقع لمست منذ صباي أننا شعب يعاني من عجز عاطفي لأسباب تاريخية معقدة، ولا أدري كيف اكتشفت هذا رغم صغر سني، وتوصلت لقناعة أبي أن الكلمة والعاطفة وحدهما بإمكانهما ترميم المجتمع، وبناء الإنسان من جديد”!

يظل الحب والعاطفة المفقودة والحرية الذبيحة على عتبات الشعارات الزائفة، محركًا لأحداث الرواية، إلا أن الكاتبة تبرع في بقر أحشاء المجتمع وتعرية تناقضاته، كلما عالجت موضوع البحث عن العاطفة المفقودة، فها هي الابنة إيمان التي أحبت محمودًا خمس سنوات لكن أمه أقنعته بالزواج من ابنة خاله ورضخ لها الابن، لتتزوج إيمان برجل لا تحبه ولا تعرفه، وهي نادمة تحكي لأختها ابتسام عن خيباتها مع زوجها هاشم، فتقول:

“هل تدركين حجم البؤس العاطفي الذي عشته؟ هل تدركين مدخنة الخذلان التي وقعت فيه؟ فحين نهزم في زواجنا تنهزم أفكارنا ومعها مبادؤنا وأحلامنا؟ هل صدقنا أن الرجل المتعلم متحرر في بلادنا؟ إني أرى المتعلم مشحونًا بالتناقضات، متلبسا بالانفصامات الشخصية والنفسية والفكرية.. يريد الحرية له ولا يريدها لشريكته، يبحث عن فضاءات تحمل في داخلها عصورا مضت. لقد حصدت الأنثى في مجتمعنا كل خيبات الرجال، وقرفهم، ونفاقهم، وجبروتهم، وتناقضاتهم”.

تؤكد رواية “أصابع مريم ” أن كل نساء الرواية عرفن الحب لكن عشنا في ظلاله بعد وأده بزواج على غير الرغبة تحت وطأة المذهب والطائفية والقبيلة، وتعاود الكاتبة المونولوج الداخلي على لسان شخصيات الرواية فتتحدث وفاء لنفسها حينًا ولأختها عن ظلم وقع عليها بزيجة لا رأي لها فيها وزوج لا تحبه فتقول: “لم أستوعب كل ما حدث؛ منذ أْن ألبسوني قناعاتهم، وحاصروني بأفكارهم في أول صدمة لي، ومنذ خروجي من المنزل تحت عباءة أمي بعد أن أغلقوا نوافذ قلبي.”

أفضت حكايات الخالة هند المنتحرة والأم مريم المهزومة أمام زوجها حمد، وقصص الحب المشوهة الناقصة والزيجات الفاشلة لبنات مريم إلى رسم لوحة الأنثى الضحية باقتدار، ضحية المجتمع الذكوري طوال الوقت، وضحية العادات والتقاليد والتعقيدات العرفية في مواضع كثيرة، وضحية الذات التي شعرت بالذنب، كما هو حال مريم التي ظلمت نفسها مع حمد باستمرار زيجة لا مشتركات فيها سوى بنات يحملن اسم والدهن، وذنب قهر الرغبة في العيش مجددًا مع من أحبها وأحبته “هلال” زميل العمل، ويستمر طوفان القهر تمارسه مريم مع بناتها، الواحدة تلو الأخرى، وحتى المرة الوحيدة التي عدلت فيها عن رأيها ورضيت بتزويج ابنتها الصغرى ابتسام بزميلها حسين، المتزوج، كان ذلك بعد فوات الأوان بسبع سنوات من الرفض، وربما تفرض هذه النماذج مجتمعة السؤال وسط هذا الصخب السردي لمعزوفة الفشل في الحياة، ألا يوجد نموذج واحد إيجابي تنتصر فيه الأنثى لحبها وحريتها في معركة الحياة؟!

من جماليات الرواية اعتناء الكاتبة بالتفاصيل في بناء الأحداث والشخصيات، ابتداءً من العناية الفائقة في اختيار أسماء الشخصيات، وكل اسم له دلالته ومرورًا بالتشبيهات والصور البليغة للحب  الذي شبهته بالإنسان الذي لا يولد مرتين، والحرية والعدالة والقيود، وإذ تخاطب مريم نفسها فتقول: “ارقص كما لو أن لا أحًدا يراك فالحياة حلبة من الرقص”ØŒ وصولًا لقمة الواقعية بعد تبدل مواقفها من النقيض للنقيض فيما يخص موافقتها على زواج ابنتها الصغرى ابتسام من حسين الذي رفضته الأم فتزوج وأنجب، وبعد سبع سنوات ترحب الأم بتزويجه ابنتها الصغرى زوجة ثانية، لتختم الرواية بعبارات فيها من الإيجابية والأمل دلالات كثيرة لغد أفضل على لسان ابتسام التي قد تبتسم لها الحياة ولو بعد حين إذ تخاطب حسين قائلة:

لن يكون عمرك كله ربيعًا.. ستتناوب عليك الفصول الأربعة.. ستلفحك الخيبات..

تتجمد في صقيع الوحدة.. تتساقط أحلامك اليابسة

ثم تزهر أيامك

هكذا هي الحياة.

Drsamir33@yahoo.com

Related posts

Leave a Comment